دراسة بحثية :.”جبل الفاية” بالشارقة شاهد على الوجود البشري على مدى 210 آلاف عام

الشارقة في 25 يونيو 2025 رجحت دراسة بحثية نشرتها مجلة “العلوم الأثرية والأنثروبولوجية” التابعة لمؤسسة النشر العلمية الرائدة “سبرينغر نيتشر” أن البشر الأوائل عاشوا في “جبل الفاية” بالشارقة قبل 80 ألف عام .

وتقدم الطبقة الأثرية التي تناولتها الدراسة للمرة الأولى في التاريخ قيمة مضافة من الأدلة العلمية الحديثة على التاريخ البشري الممتد إلى أكثر من 210 آلاف عام في هذه المنطقة.

وفي دراسة حديثة ورائدة نُشرت عام 2025 في مجلة “العلوم الأثرية والأنثروبولوجية” المرموقة كشفت بحوث علمية وأثرية أُجريت في موقع “جبل الفاية” بالشارقة عن أدلة جديدة على الاستيطان البشري تعود إلى نحو 80 ألف عام مضى موفرة رؤية علمية أوضح حول الدور المحوري الذي لعبته المنطقة في الهجرات البشرية المبكرة وتُعدّ الطبقة الأثرية التي ركزت عليها الدراسة من أهم الاكتشافات الحديثة إذ تقدم للمرة الأولى قيمة مضافة من الأدلة العلمية التي تعزز السردية التاريخية للوجود البشري في “الفاية” الممتد إلى أكثر من 210 آلاف عام.

يُشكل هذا الاكتشاف محطة فارقة في الجهود الجارية لترشيح ملف “المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية” لقائمة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (اليونسكو) مما يعزز من الأهمية العالمية لموقع “جبل الفاية” بوصفه موقعا أثريا رئيسيا يُسلّط الضوء على بدايات انتشار الإنسان العاقل في أنحاء العالم.

ونوهت نتائج الدراسة إلى أهمية “الفاية” باعتباره موقعا محوريا لفهم تحركات الإنسان العاقل المبكر وتكيّفه واستراتيجيات بقائه في بيئات صحراوية قاسية ومتغيرة في شبه الجزيرة العربية مؤكدة أن المشهد الطبيعي في “الفاية” لم يكن مجرد ممر عبور ضمن رحلة الهجرات البشرية بل كان موقعاً مهماً ومستداماً للسكن والاستقرار والتقدم البشري.

تعد الدراسة ثمرة تعاون دولي بين هيئة الشارقة للآثار وجامعة توبنغن (ألمانيا) وجامعة فرايبورغ (ألمانيا) وجامعة أوكسفورد بروكس (المملكة المتحدة) وبتمويل ودعم من مؤسسة البحوث الألمانية (DFG) وأكاديمية هايدلبرغ للعلوم والعلوم الإنسانية (ألمانيا).

تكمن أهمية هذه الدراسة في توثيق النشاط البشري في “جبل الفاية” خلال نهاية مرحلة مناخية محورية تُعرف باسم “المرحلة الخامسة من النظائر البحرية” وهي فترة شهدت تغيرات مناخية كبرى في تاريخ شبه الجزيرة العربية.

وأوضح الدكتور كنوت بريتزكي رئيس البعثة الأثرية الألمانية في الشارقة والباحث الرئيسي في الموقع السياق أن هذه المرحلة كانت أشبه بتأرجح مناخي واسع حيث شهدت درجات الحرارة وهطول الأمطار تقلبات حادة وتسببت الرياح الموسمية القادمة من المحيط الهندي في فترات رطبة متقطعة في تحويل الصحراء القاحلة إلى مزيج من البحيرات والمراعي الخصبة هذه الظروف لم تكن مجرد استثناء بيئي بل وفرت موطناً مستداماً للبشر الأوائل وهو ما يتعارض مع الافتراضات السابقة التي اعتبرت المنطقة مجرد معبر للهجرات.

لكن المناخ وحده لا يروي القصة كاملة وما يميّز سكان “الفاية” الأوائل الأدوات التي صنعوها — والطريقة التي صنعوها بها فعلى عكس المواقع الأخرى في شمال شبه الجزيرة العربية التي تضم أدوات حجرية ذات أشكال مثلثة أو بيضاوية تشير المكتشفات في “الفاية” إلى بصمة تقنية مختلفة .. هنا استخدم البشر الأوائل تقنية متقدمة تُعرف بـ”الاختزال ثنائي الوجه”وهي منهجية دقيقة تتضمن الطرق على نواة الحجر من جهتين لتشكيل نصال طويلة وحادة.

وقال الدكتور بريتزكي إن هذه التقنية لم تكن مجرد عملية نحت عشوائي فالاختزال ثنائي الوجه يتطلب رؤية واضحة وتخطيطاً مسبقاً ومهارة عالية الأمر يشبه طاهياً يتقن تقطيع سمكة — كل ضربة محسوبة لتستثمر المادة بأقصى حد ممكن.

وأفرزت هذه الطريقة أدوات متعددة الاستخدامات للصيد وقطع اللحوم وجمع النباتات وصناعة أدوات أخرى ضرورية للبقاء هذه التقنيات لم تكن مجرد أدوات حجرية بل كانت امتداداً لتأقلم الإنسان مع بيئته ودليلاً على هوية تقنية محلية متفردة.

و في قلب صحراء الشارقة يحتفظ “جبل الفاية” بما يُعدّ أحد أطول السجلات الأثرية المتصلة في شبه الجزيرة العربية وهو تسلسل زمني يمتد من نحو 210 آلاف عام إلى 80 ألف عام وهو أمر نادر في سجل البحوث الأثرية الإقليمية وتم التحقق من هذا الامتداد الزمني باستخدام تقنية التأريخ الضوئي التي مكّنت الباحثين من تحديد أعمار طبقات الرواسب بدقة مشيرة إلى أن الإنسان لم يمرّ من “الفاية” بصورة عابراً بل استوطنها أو عاد إليها مراراً عبر آلاف السنين متأقلماً مع تحولات المناخ المتعاقبة.

يأتي هذا الاكتشاف في لحظة مفصلية حيث تواصل الشارقة جهودها لتسجيل “المشهد الثقافي لعصور ما قبل التاريخ في الفاية” الذي يشمل البيئة القديمة المحيطة بالموقع على قائمة التراث العالمي لليونسكو فالدراسة الجديدة تعزز من المكانة الفريدة التي يتمتع بها الموقع باعتباره واحداً من أقدم الأماكن في الجزيرة العربية التي احتضنت الإنسان ومكّنته من البقاء والتكيّف والازدهار.

وقال سعادة عيسى يوسف مدير عام هيئة الشارقة للآثار وأحد المساهمين الرئيسيين في البحث إن نتائج الدراسة في (الفاية) تكشف بشكل واضح أن المرونة والإبداع والرغبة في التكيّف من أقوى سمات الطبيعة البشرية وخصائص جعلتنا من أقدم الأنواع التي أتقنت فنون البقاء على كوكب الأرض وتعكس الأدوات التي تم اكتشافها عمق العلاقة بين الأرض والإنسان ومع استمرارنا في دعم ملف الفاية إلى قائمة التراث العالمي نشهد كيف يمكن لاكتشافات الماضي أن تُلهم الحاضر وتربطنا ببعضنا البعض في المستقبل.

ولا تقف أهمية الدراسة عند حدودها العلمية بل تتجاوزها إلى تقديم نموذج رائد لكيفية الجمع بين العلوم الدقيقة والسرد الأثري لتعزيز الوعي العام والأكاديمي بالماضي الإنساني المشترك وبالإضافة إلى ثقلها العلمي تُسلّط الدراسة الضوء على دور الشارقة المتقدم في ريادة البحث الأثري وحماية التراث الثقافي الإنساني وأم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى